#في_شارعنا_حداد_آثم – ج 1 :

الاديب والفنان والمهندس
طارق عيد
في أحد الشوارع الجانبية القصيرة بالحي العتيق كان هناك حَداد كلما علت الشمس وانتصف النهار ملأ الدنيا ضجيجا بمطرقته التي كانت تدق رؤوس سكان الشارع قبل أن يهوي بها على قطع الحديد الساخن.. تعلم منه السكان كيف يمكن أن تغطي ستائر البيت ووسادة المضجع أغشية الآذان، وباتوا جميعاً يلعنون اليوم الذي استوطن فيه هذا الحداد المزعج الركن الصغير من طرف الشارع…
ذات يوم ذهب إليه (الحاج اسماعيل) ذو السبعين عام ليشكو إليه قلة نومه بالليل لمرضه الشديد واحتياجه لبعض الراحة في ساعات النهار، فنهره الحداد قائلاً:
– يا حاج اذهب ونام في مكان يابس.. أو ادفن نفسك بأي أرض خربة.. حياتي لا تحتمل أمثالك
ومرت شهور قبل أن يستيقظ سكان الشارع على سياج حديدي كبير دق أوتاده الحداد عند مشارف الشارع، فذهبت إليه جارته السيدة (لُبنَى) سائلة:
– ما الأمر؟ لماذا هذا السياج؟
فنظر إلى خصرها وثبت نظراته ولم يرفعها مجيب:
– سرقني لص بالأمس.. وقررت أن أحمي ممتلكاتي.. وممتلكاتك أيضاً .. سأحمي نفسي من اللصوص.. وسأحمي كل مَن أحببت..
غيرت (لبنى) وضعية حقيبة يدها لتكون حائلاً يقطع سهام نظراته الوقحة وقالت له:
– هناك ما يسمى بالشرطة تقوم بحماية المواطنين..
وانصرفت تتمتم بكلمات لم يفهمها الحداد الذي علا صوته قائلاً:
– وأين كانت الشرطة عندما سرقني اللصوص!
لم يكن السياج مانعاً لتسلل اللصوص قدر كونه رباطاً سخيفاً يخنق به سكان الشارع، فكلما أرادوا الخروج أو الدخول لزم الأمر أن يقوم الصبي المساعد للحداد برفع الأقفال وغلقها مرة أخرى، وفي بعض الأحيان يقف سكان الشارع في طابور لحين وصول الصبي ليفتح لهم قدر كوة صغيرة يتسللون منها كالفئران!
وبعد بضعة شهور شعر سكان الشارع بضجر شديد بسبب هذا السياج الخانق، فغضب معلم اللغة العربية الأستاذ (عبدالقادر) وانتفض مصطحباً جاره السيد (ميخائيل) صاحب متجر الاحذية والجلود، وذهبا إلى الحداد يطلبون منه ازالة هذا السياج او فتح معبر يمرون منه بيسر دون الحاجة للسؤال أو الإنتظار، فرفض الحداد واحتدت عباراته، فزاد غضب الاستاذ (عبدالقادر) وهدده بإزالة السياج بالقوة، فما كان من الحداد إلاّ أن أسدل سيفاً وأشهره في وجهيهما صائحاً:
– إن تجرأ واقترب احدكما من السياج .. أو أي ذكر من سكان الشارع.. فقد اقتربت نهايته ، فسأمزق جسده واجعله عبرة لكل الناس…
عندئذ لم يستطع (عبدالقادر) أن يسيطر على قبضة يده وهي تلطم أنف الحداد، بينما اخترقت مقدمة حذاء (ميخائيل) المدببة مؤخرة الحداد حتى كادت تنفد من بين احشائه ….
داخل قسم الشرطة مرت ساعات مريرة على (عبدالقادر) و (ميخائيل) وهما يتبادلان النظرات نحو بعضهما ونحو بقية المحبوسين، فقد تهشم انف الحداد الذي توعدهما بالإنتقام وانه سيقتص منهما بسجنهما، وشرع أهالي الشارع بالوساطة للتهدئة بينهم، وتدخل كبير التجار بالمنطقة (المَعلم صبري الراكب) لحل المشكلة وتصفية النفوس، واستطاع (الراكب) بسطوته أن يضيِّق الخناق على الحداد الطامع والذي اضطر للتنازل والقبول بالصلح في مقابل أن يدفع له مبلغاً مالياً كبيراً وأن يكتبا تعهداً يقضي بعدم التعرض له مجدداً، وارتضَيا (عبدالقادر) و (ميخائيل) بذلك وخرجا من المأزق، وابتعدا عن الحداد،
وبقى السياج على وضعه كما هو، واستمر الحداد في طرق الحديد وشحذه.
مرت شهور وحل شهر رمضان، وفي يوم الجمعة ومن أعلى المنبر وبعد أن فرغ المصلون من صلاتهم هتف إمام وخطيب المسجد الشيخ (عبدالحق أصيل):
– يا أهل المنطقة الكرام .. منذ سنوات سكن شارعنا حداد آثم.. لا نعلم من أي حدب في الأرض أتانا.. هو يقلق نومنا وينتهك حقوق الجيران.. ولا يعطي الطريق حقه.. يسيئ فينا الأدب.. فيهين الشيخ الكبير.. ولا يغض بصره عن النساء.. ويحاصرنا بسياج وكأننا في سجن هو حارسه!
همهم بعض الجلوس بينما أدار ظهره البعض الآخر وانصرفوا، فاستطرد الشيخ قائلاً:
– وبالأمس اشترى ذلك الحداد بيتاً جديداً بالشارع ليتوسع فيه ويعلو بطوابقه فوق مئذنة المسجد، و يسد آذاننا بصرير وصفير و طرق الحديد فلا نسمع نداء ولا نهنأ بغفوة ولا يغمض لنا جفن.. فيا سكان الشارع أدعوكم لأن نجتمع ونقوم معاً بطرد هذا الحداد من شارعنا قبل أن يحوله إلى مصنع كبير ونُضطر جميعاً إلى الفرار من نار حدادته..
لم تمض أكثر من ساعتين على خطاب الشيخ (عبد الحق) حتى أغلق الحداد أبواب ورشته، وانصرف العمال وأوصدوا خلفهم الأبواب كلها، ومكث أهل الشارع يترقبون المارة وينظرون صوب ركن الحداد وبيته الجديد، ومضت الليلة هادئة بلا صخب أو ضجيج، بل ومضى اسبوع هادئ استمتع فيه سكان الشارع بسكون الليل وسمعوا لأول مرة شقشقة وزميم العصافير في ساعات النهار، وكأن الحداد قد هجر الشارع أو ربما قد مات!
استمر الهدوء لشهر كامل نسي فيه سكان الشارع الصداع الذي لازم رؤوسهم، وعلا صياح الأطفال يلعبون في جنبات الشارع، وفي لهوهم قام احد الصبية مازحاً بطرق الأبواب بعصا حديدية صائحاً “اصحوا يا اولاد .. انا الحداد” فقام الأطفال بمحاكاة ضربه كما فعل الاستاذ (عبدالقادر) والسيد (ميخائيل) في مشهد مسرحي كوميدي.
لم يدم المشهد طويلاً، فمع غروب الشمس انتفض سكان الشارع على أزيز محركات سيارات نقل كبيرة وبعض المعداث الثقيلة تتقدمهم سيارة فارهة، وما أن توقفت السيارة حتى فُتح بابها الأمامي وخرج منه رجل قوي البنية ليفتح الباب الخلفي للسيارة ويخرج منه (المَعلِم صبري الراكب) وفي نفس اللحظة خرج الحداد من الباب الخلفي الأخر للسيارة، ووقفاً معاً يتأملان بيتاُ يجاور بيت الحداد الجديد..
ارتفعت معدلات القلق لدى سكان الشارع وهم يترقبون الموقف من الشرفات وأعلى الأسطح، فقرر الاستاذ (عبدالقادر) أن يقطع حبل التوتر بأن ذهب إلى (المَعلِم صبري) يسأله عن سبب وجوده ومن خلفه ركب سيارات النقل والمعدات، فأجاب (الراكب) بهدوء وهو يشير بسبابته إلى البيت بجواره:
– قد اشتريت هذا البيت وسأقوم بهدمه وكذلك سأهدم بيت الحداد وسنشيد معاً مبنى سكني وتجاري كبير وفخم يخدم أهل المنطقة.. وسنخلصكم من الإزعاج المستمر وسنرفع السياج ليسهل الوصول إلى الشارع ويصبح مزاراً جذاباً و …
قاطعه (عبدالقادر) سائلاً:
– وماذا عن سكان البيت و قطعة الأرض المجاورة؟
ابتسم (الراكب) قبل أن يجيب بنبرة ييشوبها بعض السخرية:
– سأردد على مسامعك مرة أخرى فربما لم تسمعني جيداً في المرة الأولى.. لقد اشتريت البيت الذي أمامك.. وسيخلي السكان شققهم وسيعوضهم شريكي الحداد الذي كتبت على نفسك تعهداً بعدم التعرض له بعد أن كاد يحبسك وصديقك ميخا..
سكت (الراكب) لحظات نظر فيها الحداد إلى (عبدالقادر) وابتسم بخبث، بينما أخذ (الراكب) نفساً عميقاً ونظر لمن حوله من الرجال ثم قال بصوت جهوري :
– والآن سنبدأ تنظيف الخرابة المجاورة للبيت وإزالة القمامة منها لتبيت فيها سياراتنا ومعداتنا دون أن تسد الشارع أو تعطل المرور.. انصحك يا استاذ عبدالقادر وأهل الشارع بالإبتعاد عن موقع العمل.. ومن خاف منكم على سيارته فليقودها إلى خارج الشارع لحين الإنتهاء من أعمال التنظيف والهدم…
« “المرأة تقود” للتنفيذيات. (Previous News)
(Next News) تهنئه النائب الدكتور محمد الصالحى بمناسبه ذى الحجه »
Comments are Closed